الاثنين، 18 أغسطس 2008

لقـــــاء


(قصة قصيرة)

للمرة العاشرة تحملق في البرقية الموضوعة أمامها... تقرأ كلماتها بهدوء ثم تضعها ثانية فوق المنضدة وتلتفت إلى المرأة... تتأمل ملامحها التي تعرفها جيدا... تمسك خصلات شعرها البيضاء المتربعة في مقدمة رأسها وتحاول اخفائها بأخرى سوداء... ولكن الزمن ينتصر في النهاية ...
كانت تتمنى أن تكون اليوم بذات ملامحها في العشرين حين التقته لأول مرة... كان اللقاء عابرا وسريعا ... وكانت أكثر فتيات الحي جمالا وهدوءا... أما هو فكان جذابا... مظهره الجاد وحلته الرسمية جعلا دوما منه حلما لكثير من الفتيات।

انتهى كل شيء سريعا كما بدأ سريعا... صرامة والدها أو تعجله هو الأمور... لا تدري أيهما السبب الحقيقي في هدم كل شيء... عادت تنظر للبرقية من جديد ... لا تختلف كثيرا عن برقيته الأخيرة التي أنهت كل شيء منذ عشرين عاما... وعلى الرغم من هذا ... كانت تدرك أنه سيعود يوما ... ويفصح عن كل شيء... ستلومه قليلا ولكنها ستسامحه... هي بالفعل سامحته... ولكن كيف سيكون اللقاء؟ هل تغير كثيرا؟ هل هزمته الوحدة مثلها؟ منذ أمد بعيد انقطع الاتصال بينهما... ولكنه عاد ... تلك البرقية المذيلة بتوقيعه تؤكد لها ذلك وتخبرها بموعد اللقاء والمكان... ولكنها لم تذكر السبب...

عادت مرة أخرى إلى تصفيف شعرها... وتأمل ملامحها من جديد... هناك بعض التجاعيد ولكنها لا تقلل من جمالها... فلنقل فقط إنه قد توارى خلف ستارة شفافة قد تخفيه بعض الشيء ولكنه مازال موجودا... مازالت الخصلات البيضاء ترفض أن تتوارى خلف السوداء ... كان من الأفضل لها أن تصبغ شعرها ولكنها لم ترغب أن يدرك أنها تكسر الواقع من أجله... هو من كان من المفترض أن يفعل يوما من أجلها ... مازالت تذكر جيدا برقيته الأخيرة... كلمتان فقط هو ما وجدهما ليهديهما لها:
" أسف، سأرحل".

لا تتفق سعادتها اليوم للقائه وما سببه لها من ألم اعتصرها لسنوات... ولكن قلبها ينبض اليوم كما كان ينبض منذ عشرين عاما... الأشياء تلونت من جديد... عاد لها بريقها... وعاد للحياة بهجتها التي افتقدتها بعد رحيله... اليوم فقط عادت الحياة للحياة... فلتكن التجاعيد ولتكن الخصلات البيضاء فليكن كل شيء كما هو... كل هذا لايهم... المهم الآن إنه هنا... أفاقت من شرودها... وتنبهت أنه لم يبق سوى ساعة ونصف وأكثر ما تكرهه هو وصولها متأخرة عن موعدها.

في التاكسي كانت مطمئنة لأنها ستصل قبل الموعد بعشرين دقيقة... كل هذا جميل ولكن كيف يبدو الآن؟ هل ما زال بنفس هيئته الجادة؟ هل اعتلى الشيب شعره أم أن الحياة كانت أكثر كرما معه؟ من سيبدأ الحديث؟ وكيف له بعنواني؟ أخرجت البرقية من حقيبتها لتقرأها ثانية... وتطمئن أن الاسم هو نفس الاسم... ولكن ماذا لو كان تشابه أسماء... هزت رأسها لتنفض الفكرة عن ذهنها... لا... لا يمكن أن يكون... أبعد عشرون عاما يأتي تشابه الأسماء ليقتلني هو الآخر...لا لن يكون... أفاقت على صوت سائق التاكسي وهو يخبرها بأنهما قد وصلا إلى العنوان.

المكان أنيق... اختارت طاولة في آخر المكان... وراقها هذا فلم يكن في القرب أحد ... هذا أفضل ليتحدثا بهدوء وحرية... في السادسة تماما أتى هو... نفس الجدية والجاذبية... لم يغير الزمن منه كثيرا باستثناء بعض الشيب فوق جبهته اليمنى... ترى هل سيعرفني كما عرفته؟ وكيف له أن ينساني وأنا لم أنسه يوما... كنت أنتظره كل يوم... رفضت كل من تقدم لي وقررت أن أنتظره حتى يعود... هكذا حدثت نفسها ... ولكنها تعجبت حين رأته يختار منضدة أخرى...وإن كانت قريبة منها..
إذن هو لم يعرفني... هل تغيرت ملامحي إلى هذا الحد... لدقائق شعرت بالضيق وتوقف عقلها عن التفكير... هل نسي فعلا ملامحي... معه حق... لقد تغيرت وبدا على الكبر... معذور كيف له أن يعرفني بهذه الهيئة الجديدة...دار كل هذا بذهنها فقررت أن تقطع الشك باليقين... أمسكت بحقيبتها وتوجهت حيث يجلس... ودار بينهما حوارا هادئا:
- مساء الخير
- مساء الخير سيدتي
- ألا تعرفني؟
على الرغم من دهشته لمباغتتها إياه ولكنه ولثوان حاول التدقيق في ملامحها وأجاب وهو يوميء براسه نافيا:
- معذرة سيدتي، كثيرات هن من أتعامل معهن قد أكون أعرفك ولكن للأسف الذاكرة لم تعد تحتفظ بالكثير من التفاصيل الجميلة.
أدركت المجاملة... ابتلعت حسرتها وقررت أن تكمل للنهاية فأستأذنته في الجلوس... وافق على استحياء وشعرت بارتباكه وكأنما يخشى أن تأتي هي وتجده مع أمرأة أخرى...طمأنها هذا التفسير بعض الشيء فأخرجت البرقية من حقيبتها وأعطتها إياه... وما أن رأها حتى بدا عليه الارتياح وقال مبتسما:
- كيف لم أعرفك؟ لعل منظار الشمس هذا هو السبب... يخفي كثير من ملامح الوجه كما تعلمين... آسف على هذا... كيف الحال؟
شعرت بارتياح عميق وبفرحة جاهدت ألا تبدو على وجهها... لقد عرفها لم يكن حلما إذن أو تشابه أسماء... شعرت أن قلبها يولد من جديد... وأن اللحظات الآتية تحمل لها من السعادة ما يمحو مرارة الماضي... وعلى الرغم منها جاء ردها متلعثما:
- بخير... كيف حالك أنت؟
- بخير الحمد لله... لم تتغيري منذ أخر مرة رأيتك فيها... يبدو أن الزمن لاينطلق بك للأمام وإنما للخلف...
ابتسمت لمجاملته ولم تدر بما تجيب... لديها الكثير والكثير لتقوله ولكن اختفت كل الكلمات... ساد الصمت لدقائق... فأكمل هو قائلا:
- لن أضيع وقتك سأحدثك مباشرة في الموضوع ... تعلمين أنني عشت حياتي كلها مغتربا وأنا الآن في حاجة ماسة لمربية لأحفادي بالبلدة التي أنا فيها وحقا لا أريد سوى مربية مصرية فأنا أريد لأحفادي أن يكونوا مصريين من الصميم ... لا أريدهم خليطا لا أعرف له كنهه ولثقتي فيكِ أريد منك أن ترشحي لي وعلى وجه السرعة فتاة تستطيع القيام بهذا الدور وأعلم أنك قادرة على ذلك مدام ميرفين.
- ألجمتها المفاجأة ... لم تُجب بشيء... عقلها تحرك بسرعة ليستوضح الأحداث... إذن فهو كان يريد مدام ميرفين وليس نرمين...كان يريد أستاذة الأدب والسلوك التربوي للطفل كثيرا ما تأتي خطابتها لي والعكس...
- مدام ميرفين لمَ لا تجيبي؟
- خلعت نظارتها وأجابته بإحباط: لأنني لست ميرفين... وصلتني البرقية بالخطأ... د। ميرڤين تقطن في شارع قريب مني يحمل نفس رقم شارعي 209 ولكن يزيد عليه كلمة متكرر... يبدو أن رجل البريد أخطأ مجددا في العنوان ... واسمي لا يختلف كثيرا عن ميرفين...
لبرهة ألجمته المفاجأة ولكنه ابتسم مجددا وقال:
- اوه... ياله من موقف... معذرة سيدتي على ازعاجك ... إنه رجل البريد... ولكني سعدت حتما بلقائك مدام (... ) معذرة لم أتشرف بالاسم...
- علا وجهها ابتسامة باهتة وهي تقول: لا تشغل بالك سيدي لن يفيد هذا في شيء... حقا ياله من موقف...
غادرت المكان وهي لا تصدق... حتى اسمها لم يعرفه... بعد قليل كان هناك الكثير من قطع الزجاج الصغيرة تغطي أرضية غرفتها وكذا حطام لبرواز أنيق وقصاصات ممزقة لصورة لا تختلف ملامحها كثيرا عن ملامح ذاك الرجل।

هناك 6 تعليقات:

غير معرف يقول...

سلام عليكم شيرين
مدونتك حلوة ربنا يوفقك .. لم أكن أعلم أن لك في كتابة القصة..مع أنك كنت أستاذتنا في النحو لكن فعلا برافو حبيبتي

فازو

غير معرف يقول...

ما شاء الله أسلوبك جميل في الكتابة إلى الأمام دائما.

shereen يقول...

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أهلا فازو...سعيدة لرؤيتك هنا... أشكرك على مشاركتك معي ... كما كنتِ دوما حينما كنا نتعلم سويا النحو...

shereen يقول...

أهلا وسهلا بك... أتمنى بالفعل أن أحترف الكتابة يوما بإذن الله... شكرا على حضورك ومشاركتك... دمت بكل خير.

disha_hawk يقول...

شيرين مش عارف اقول لحضرتك ايه
بجد قصة مؤثرة جدااااااااااااااااااا
و هاتكون مؤلمة جدااااااااااااااااااا
لو كانت واقعية

shereen يقول...

أكيد واقعية وحصلت وحتحصل... الحياة لا تتوقف.
المهم فقط ألا تتجمد حياتنا عند موقف معين يرسمه الخيال لنتفاجأ في النهاية بواقع أخر مخالف تماما...
انتظار ما لا يجيء... ضربة قاصمة للحياة...
أطيب تحياتي
وكل عام وأنت بكل خير...
ورمضان كريم